القديسون في المسيحية هم أشخاص عاشوا حياتهم بالإيمان والرجاء والحب. إنهم أولئك الأبرار الذين تميزوا بأعمالهم الصالحة ومحبتهم للآخرين، وكرّسوا أنفسهم لخدمة الله والناس. في أثناء حياتهم معنا على الأرض، كانوا أناساً عاديين مثلهم مثلنا، معرضين للتجربة وللخطيئة. ولكن ما ميزهم هو أنهم لم يستسلموا للخطيئة، بل استمروا بالسير على درب يسوع، عاكسين نوره في أقوالهم وأفعالهم. بسبب حياتهم المليئة بالفضيلة والتي ألهمت وما زالت تلهم الآخرين، تم تكريمهم والاعتراف بهم، ودعتهم الكنيسة، بعد وفاتهم، قديسين. لقد تميَّزوا بتجسيدهم لتعاليم المسيح على نحو ملموس في حياتهم اليومية، سواء من خلال التضحيات، أعمال الخير والبرّ، أو بالمعجزات التي نُسبت إليهم خلال حياتهم، أو بعد وفاتهم.
مفهوم القديس ليس محدوداً بزمان أو مكان. كل مؤمن مدعو إلى حياة القداسة خلال حياته على الأرض. والقداسة، أو حالة أن يعيش المؤمن حياة القداسة، تعني العيش في توافق تام مع مشيئة الله في كل جانب من جوانب الحياة، والسعي لتحقيق الفضائل التي وهبنا إياها يسوع هبة مجانية، وأن نعيش حسب الفضائل التي دعتنا إليها الكنيسة. إن مفهوم القداسة يعزز فكرة أن جميع المؤمنين مدعوون إلى السعي نحو حياة تملؤها الفضيلة والقرب من الله، وأن القديسين هم نماذج يُحتذى بها لتحقيق هذا الهدف.
القديسون عند المذاهب الأرثوذكسية والكاثوليكية وبعض المذاهب البروتستانتية، هم الأشخاص الذين انتقلوا فور وفاتهم إلى السماء، ومن ثم فكل الموجودين في السماء، بالإضافة إلى الملائكة، هم من القديسين. بالمقابل، ليس كل القديسين في السماء معروفين لنا على الأرض، لأن الكثير منهم عاشوا حياتهم المسيحية بتواضع وبساطة، بعيداً عن الأضواء. هناك من عاشوا وصلّوا وصاموا في الخفاء، ولم تُتح للكنيسة الفرصة للتعرف على حياتهم أو أفعالهم الفاضلة. الكثير من القديسين كانوا شهداء، واستشهدوا في ظروف قاسية، دون أن يُعرفوا بشكل واسع. كما أن بعضهم قدّموا حياتهم في خدمة الله والآخرين بطريقة غير لافتة، ولم تكن لديهم شهرة تتيح للكنيسة أن تتعرف عليهم وتعلن قداستهم. لذلك، تؤمن الكنيسة بأن السماء مليئة بالقديسين الذين لم يُعلن عنهم رسمياً على الأرض، لكنهم يعيشون في حضرة الله، مكافئين على إيمانهم وأعمالهم الصالحة. هذا يعكس فكرة أن القداسة ليست مرتبطة بالاعتراف البشري، بل بمقدار الحب والإخلاص الذي يقدمه الشخص في حياته على الأرض.
تُعلن الكنيسة قداسة الشخص من خلال عملية رسمية وتكريم علني. تعتمد هذه الإجراءات في الكنيسة الكاثوليكية على التقديس، بينما تعتمد في الكنيسة الأرثوذكسية الشرقية على التمجيد. في الكنيسة الكاثوليكية، يتم تعيين القديسين من خلال عملية معقدة تُعرف بالتطويب والتقديس. تبدأ هذه العملية بدراسة حياة الشخص المتوفى والتحقق من أنه عاش حياة قداسة. بعد ذلك، يتم إعلان الشخص مباركاً، وإذا ثبت أنه حقق معجزات بعد وفاته، يُعلن قديساً. أما في الكنائس الأرثوذكسية، فإن عملية تعيين القديسين والمسماة تمجيد، تكون أكثر ارتباطاً بالاعتراف الشعبي والتكريم المحلي. يتم تكريم الأشخاص الذين عاشوا حياة مقدسة عبر الشهادات الشخصية والاعتراف الجماعي بقداستهم. وفي النهاية، تعترف الكنيسة الأرثوذكسية المحلية أو المجمع الكنسي المحلي بالقديس، وتبدأ في الاحتفال به رسمياً. يتم تكريم القديس بطرق مختلفة، مثل التكني باسمه، أو بناء الكنائس باسمه، أو تكريم أيقوناته ورفاته. هذا التكريم يأتي من اعتباره قدوة ومثلاً أعلى، ولا يعني العبادة بأي حال. الكنيسة تكرّم وتبجل القديسين، بينما العبادة هي لله وحده. أيضاً، تؤمن هذه الطوائف أن القديسين بعد وفاتهم يستمرون في الشفاعة والتوسط والصلاة من أجل الناس أمام الله. ووفقاً لهذه المعتقدات، فإن العلاقة الروحية بين المؤمنين الأحياء على الأرض والقديسين في السماء لا تنقطع، والقديس يصلي الآن وفي كل أوان لأهل الأرض، ومن الممكن دائماً طلب شفاعته وصلاته وتضرعه من أجلنا عند الله.
ليس كل قديس هو رجل دين بالضرورة، والكثير ممن تكرمهم الكنيسة بوصفهم قديسين، كانوا أناساً عاديين عاشوا حياة الفضيلة والبر. في بداياتها، كانت الكنائس المسيحية تعتبر القديسين أولئك الشهداء الذين قدموا أغلى ما عندهم، وهو حياتهم، فداءً لإيمانهم وللكنيسة. فيما بعد اتسع مفهوم القديس ليشمل أولئك الأشخاص الذين عاشوا حياة الفضائل خلال حياتهم الأرضية، ويمكن تقسيم هذه الفضائل إلى ثلاث فضائل لاهوتية وأربع فضائل أخلاقية. هذه الفضائل السبع، هي الصفات والأعمال التي يجب على جميع المؤمنين العمل بها وتنميتها في حياتهم اليومية. الفضائل اللاهوتية تشمل الإيمان، الذي يمثل الثقة بالله وقبول حقائقه؛ الرجاء، الذي يعبر عن الثقة بوعد الله بالخلاص والتطلع إلى الحياة الأبدية معه، والمحبة، التي تدعو إلى حب الله والآخرين بشكل غير مشروط. أما الفضائل الأخلاقية، فتتضمن الحكمة، وهي القدرة على اتخاذ قرارات صحيحة، العدالة، التي تعني الإنصاف وإعطاء كل ذي حق حقه، الشجاعة، التي تدفع المؤمن إلى الصمود أمام الشدائد والتحديات، والاعتدال، الذي يساعد على ضبط النفس والحد من الشهوات والرغبات والتحلي بالتعقُّل في جميع الأمور. هذه الفضائل تشكل أساس الحياة المسيحية، حيث تسهم في تحقيق حياة مليئة بالإيمان والفضيلة. إنها الأعمال والصفات التي يجب أن يعيشها الإنسان خلال حياته على الأرض لكي ينال شرف القداسة، في السماء، بعد وفاته.
يُعتبر القديسون جزءاً لا يتجزأ من الحياة المسيحية، حيث يقدمون أمثلة حية على كيفية العيش وفقاً لتعاليم المسيح. من خلال دراسة حياة القديسين والتأمل في أعمالهم، يمكن للمسيحيين أن يجدوا القوة والإلهام لمواصلة مسيرتهم الروحية. يبقى القديسون مصدر إلهام لا ينضب للمؤمنين في كل زمان ومكان، ودليلاً حياً على قدرة الإنسان على عيش وتحقيق حياة القداسة من خلال الإيمان، الرجاء، الحب، الحكمة، الشجاعة، الاعتدال، والعدل.
نور العالم